مبتسم ومندفع وهو يستقبل مرضاه في مستشفى الرازي في جنين، خاصة الفقراء والمصابين في الانتفاضة، وباذل أقصى جهده في حسن التعامل وتقديم أفضل خدمة صحية ومعنوية مستعدا لخوض كل المغامرات من أجل إنقاذ حياة مصاب، وهو على علم أنّ الثمن قد يكون الشهادة، وقد رأى بأم عينيه الطبيب الشهيد خليل سليمان كيف تعامل الاحتلال معه وهو يحاول إنقاذ المصابين في مخيم جنين، فقد ألقوا القنابل على سيارة الإسعاف حتى احترقت ومنعوا أيّ مساعدة له وللطاقم الطبي، واستشهد الدكتور خليل سليمان حرقا.
فوجئت باعتقاله والتهم المنسوبة إليه وهو لا زال في أشهر زواجه الأولى، حيث ترك مولودته الأولى تسنيم جنينا في بطن أمها وأبصرت النور بعد اعتقاله فلم يستمتع برؤية طفلته الأولى تخرج للحياة ولم يكن إلى جانب زوجته الصابرة في مولودتها البكر.
الصمود والتوكل على الله في النفوس
وكونه طبيبا فإنّ لكلماته صدى وتأثير، وعلمت من الأخوة أنّه يقوم بدور ممثل الأسرى أمام إدارة السجون خدمة لإخوانه، أيام قليلة سمعت بمجيئه ودخل القسم وأخذته بالأحضان وهو يرتدي ملابس السجن، وأقلّب الذاكرة ولا يزال في مخيلتي ذاك الطبيب الشاب الوسيم المبتسم دائما الرؤوف على مراجعيه وهو يلبس الروب الأبيض، أقلّب الذاكرة فلا أرى تغيّر عليه سوى اللباس، وربما معالم بسيطة في الجسم بعد عشر سنوات لم أره خلالها، لكن البسمة هي هي، والتفاني في خدمة إخوانه في مختلف المجالات، وهذه روح المسلم الصادق الذي لا يغيّره الزمان ولا المكان، يحمل دعوته في قلبه ويظهر أثرها في حياته يدافع عن إخوانه وينتزع حقوقهم أمام إدارة السجن ويقوم بتدريس إخوانه المنتسبين للجامعة، وفي الغرفة التي أعيش معه فيها نقوم بتجهيز الطعام الذي يأخذ منه وقتا طويلا، وأحيانا أقوم بصحبته لزيارة الأخوة في الغرف الأخرى لتجاوز ألم السجن وقسوة الحكم.
وترك والديه عجوزين يصارعان الهرم والمرض، وقد فقد الوالد وهو في السجن، حرم المشاركة في أفراح الأسرة وأتراحها، حرم القبلة الأولى لطفلته البكر تسنيم عند ولادتها، وحرم القبلة الأخيرة لوالده الذي غادر الحياة الدنيا. كنت مشتاقا أن أراه في السجن، خاصة بعد أن حكم الاحتلال عليه عشرين عاما حكما يضاعف أربع مرات قضايا مشابهة، انتقاما منه لأن الاحتلال لا يريد لأصحاب مهن مرموقة وكفاءات علمية أن تنغمس في العمل المقاوم، وذلك لما له من أثر معنوي كبير في الشارع الفلسطيني وإعلامي ونقابي وسياسي أمام العالم، حتى أكرمنا الله بعد انتصار الأخوة الأسرى في معركة الكرامة بأن يخرجوا المعزولين، وشاء الله أن أخرج إلى سجن بئر السبع، ويتناهى إلى سمعي أنّ الدكتور أمجد في القسم، ولكن تم قمعه مع إخوانه إلى سجن نفحة بسبب الإضراب وسيعود خلال أيام، وسمعت من الأخوة عمّا كان يبذله من جهد مبارك بتقديمه النصائح الطبية للمضربين ورفع معنوياتهم بالتخفيف من مضار الإضراب وزرع المعاني وتحمل قساوة ومرارة البعد عن الأهل والخلان، رضي بما كتب الله. كنت أتمنّى أن أدخل إلى مكنونات نفسه لأعرف هل يتذكر أيامه في الرازي، وتحدّثه نفسه لو لم أكن هنا في السجن لواصلت تعليمي في الطب وتقدّمت كزملائي، هل يشعر بأيّ ندم على أنّه الآن بعيد عن أم يمان وطفلته الوحيدة تسنيم، وهما وحيدتان تتناولان طعم الإفطار في رمضان وتقضيان العيد بعيدتان عنه. أتساءل هذه التساؤلات الإنسانية الطبيعية لأنني أنظر إليه فأرى نفسية عالية وابتسامته الطيبة وعطاءه المتواصل لم يتغيّر ولم يتبدّل. طوبى لأهل ذات الشوكة الصادقين، طوبى لمن نصروا إخوانهم ودعوتهم حيث نادتهم، فلبّوا النداء صادقين، لم يبخلوا بعطائهم رغم علمهم أنّ الثمن سيكون إمّا الشهادة أو السجن. بهذه النماذج تتقدم الدعوات ويشتدّ عودها، وبالذين يظهرون يوم الغيمة حتى دون أن يصعدوا إلى الجبل تهزم الدعوات ويسوس عودها وتفرق كلمتها ويفرق صفها.
فطوبى للصادقين العاملين، وللأحبة الأطباء همسة عتاب..أين أنتم من لغة زميلكم؟